موسكو: طه عبد الواحد( نقلا عن الشرق الاوسط )
تميز الموسم السياحي في روسيا خلال الصيف الماضي بظهور اهتمام مزداد بموضة سياحية جديدة؛ إذا جاز التعبير. ولما كان مفهوم السياحة يقوم عادة على اختيار فندق يشكل نقطة انطلاق لجولات التعرف على المعالم التاريخية الأثرية وغيرها في المدن والمقاطعات، كشف الصيف الماضي عن ازدياد اهتمام المواطنين وزوار روسيا على حد سواء، بجولات بواسطة سفن تعبر شبكات الأنهر وتتيح زيارة كثير من المعالم التاريخية، دون مغادرة مكان الإقامة. فشبكات الأنهر العملاقة في روسيا شكلت منذ القدم شبكة مواصلات موازية للطرق البرية، والجديد في الأمر أن الشركات السياحية اكتشفت مؤخراً جاذبيتها.
يرى كثيرون في هذه الرحلات خياراً أكثر جاذبية من المسارات السياحية التقليدية. فالسائح لا يحتاج للتفكير بشأن الفندق الذي سيمضي فيه ليلته في مدينة جديدة وما يتبع ذلك من حزم الحقائب كل مرة، وذلك أن السفينة بمثابة فندق عائم، تتوفر فيه جميع شروط الراحة. هذا فضلاً عن أن الإقامة على متن السفينة، تشكل في حد ذاتها نوعاً من السياحة، تُمكن السائح من النظر إلى الأماكن والوجهات الجديدة من زاوية لا توفرها الجولات البرية. فهي تُوفر له مشهداً بانورامياً رائعاً، قبل أن ترسو السفينة على الضفة، لينطلق في جولة إلى تلك المدينة، بحيث تبدو كأنها رحلة إلى كتاب قديم، تروي صفحاته تفاصيل الأحداث التاريخية التي شهدتها المدينة، بينما تتحدث «صفحات» أخرى عن إرثها الثقافي والحضاري… وهكذا دواليك.
شبكات الأنهار والثروات التاريخية
عروض السياحة النهرية كثيرة جداً في روسيا؛ فهناك أسطول من السفن يقوم بجولات بانتظام. ويتم تحديد طبيعة الجولة حسب مواصفات السفينة «البخارية»؛ إذ يقوم بعضها بجولات قصيرة، لساعات، وبعضها الآخر بجولات تتراوح بين 5 أيام و15 يوماً أو أكثر في بعض الأحيان. ويشكل نهر الفولجا «العظيم» عصباً رئيسياً في مناطق وسط روسيا، حيث تنتشر على ضفافه مدن ما يطلق عليه «غولدن رنج» أو «الطوق الذهبي»، وهي مجموعة من المدن التاريخية، لعبت كل واحدة منها دوراً في ظهور وتأسيس الدولة الروسية، وكانت شاهداً على محطات حاسمة من تاريخ روسيا.
تنطلق يومياً عشرات الجولات السياحية من مختلف المدن الروسية، لكن تُشكل موسكو، بصفتها العاصمة والمركز، نقطة رئيسية؛ فمن موانئها النهرية تنطلق السفن باتجاهات مختلفة، عبر نهر الفولغا. بعد دقاق من انطلاقها وعندما تبتعد السفينة عن الضفة باتجاه المنتصف، يدخل السائح في عالم «موسكوفي» جديد، حيث يراقب المدينة، يتأمل معالمها التاريخية والحديثة، والنشاط البشري فيها الذي يجعلها تبدو مثل خلية نحل في الربيع. كل هذا من على مسار معزول عنها، يبدو مثل «مدار فضائي» على سطح النهر، يمكن للناظر منه التعرف على الوجه الآخر للمدينة، مع رؤية شاملة لها، تختلف عن رؤيته لها أثناء التجول في شوارعها.
ومع توجه السفينة عبر نهر موسكو، لدخول نهر «أوكا» أحد أهم فروع نهر الفولغا، تبدأ الجولة مع التاريخ؛ إذ يربط بين النهرين ممر مائي اصطناعي اسمه «قناة موسكو». ورغم ما يحمله تاريخ شق هذه القناة من ألم، فإنها تبقى معلماً يروي واحدة من صفحات تاريخ روسيا في الحقبة السوفياتية. ويعود تاريخ هذه القناة إلى مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، حين أدى نمو عدد سكان موسكو إلى نقص في مياه الشرب والماء للاستخدامات المنزلية. وفي صيف عام 1931 قررت السلطات الاستفادة من مياه نهر الفولغا، الذي يمر أحد فروعه على بعد 120 كيلومتراً عن المدينة لتوفير احتياجاتها من الماء. ومنذ البداية، وحتى افتتاح كامل مسارها في منتصف أبريل (نيسان) عام 1937، اعتمدت السلطات على السجناء بوصفهم قوة عاملة لشق القناة. وتقول بعض المصادر إن 196 ألف سجين شاركوا في شقها، فيما تقول مصادر أخرى إن عددهم في واقع الأمر تجاوز 700 ألف، مات عشرات الآلاف منهم خلال العمل. بعد مضي 6 عقود على تلك الصفحة المأساوية، أقامت السلطات في مدينة ديمتريف في محافظة موسكو نصباً تذكارياً لضحايا القناة بارتفاع 13 متراً.
بعد مغادرة قناة موسكو وملامسة مياه الفولغا، تبدأ الرحلة عبر النهر العظيم، الذي تقف على ضفافه عشرات المدن الكبرى ومئات المدن المتوسطة والصغيرة فضلاً عن آلاف القرى. وهذا أمر طبيعي؛ إذ لطالما استوطن الإنسان منذ القدم قرب الماء. لذلك يقدم الفولغا لضيوفه عشرات الوجهات السياحية، لعل أكثرها شعبية، المسار عبر مدن «الطوق الذهبي»، فضلاً عن مسار لرحلة أخرى تربط بين موسكو وقازان، عاصمة تتارستان، وتمر بما في ذلك عبر معظم مدن «الطوق الذهبي» فضلاً عن مدن أخرى تحمل قيمة كبرى سياحياً نظراً لمكانتها التاريخية، وكثرة المعالم فيها.
بيرسلافل – زالسكي واحدة من تلك المدن… لمعرفة أهميتها التاريخية وقيمة معالمها من ناحية سياحية، تكفي الإشارة إلى أنها تأسست عام 1152، في عهد مؤسس موسكو الأمير يوري دولغوروكي، وأن بدايات بناء أسطول روسيا البحري كانت فيها، حين زارها الإمبراطور بطرس الأول عام 1688، وقرر بناء أسطول للتسلية على ضفاف بحيرة تطل عليها المدينة. ومن المدن الأخرى ضمن «الطوق الذهبي» مدينة «روستوف فيليكي»، وهي واحدة من أقدم المدن الروسية، ويطلق عليها «لؤلؤة الطوق الذهبي». وتتميز المدينة بعدد من المعالم التاريخية، يفوق 326 معلماً، بينها بالطبع مجمع «كرملين روستوف» الشهير، والمباني القديمة داخله، التي حافظت على جمالها منذ أن شُيدت في منتصف القرن السادس عشر. كل هذا على ضفاف بحيرة بطبيعة أخاذة، كانت ولا تزال من أهم المقومات السياحية لهذه المدينة. ولا يختلف الأمر بالنسبة لنحو 12 مدينة أخرى، كلها ضمن «الطوق الذهبي»، وجميعها قديمة جداً بمعالم أثرية قيمة، تعود لأكثر من مرحلة تاريخية.
وتختلف مدة الجولة السياحية على مدن «الطوق الذهبي» عبر نهر الفولغا من شركة إلى أخرى، وحسب نوعية ومواصفات السفينة، وفترة التوقف أو الإقامة في كل مدينة على المسار السياحي، ومستوى الخدمات. ويلعب مستوى الخدمات التي تقدمها كل سفينة دوراً رئيسياً في تحديد «سعر الجولة».
وعادة تكون الغرف من «الفئة الاقتصادية» في الطابق «الأرضي» من السفينة، وفي كل غرفة ما بين سريرين و4 أسرّة، غالباً تكون «طابقية»، وحمام مشترك. أما الغرف من «الفئة الأولى» فتكون في الطابق الثاني، وتتوزع بين غرف لشخص واحد وشخصين، وتكون أيضاً بمساحة مريحة. وفي الفئة الممتازة، تكون عبارة عن جناح بفضاء رحب، مقسم إلى غرفة نوم وغرفة جلوس، وفي بعض الأحيان غرفة مزودة بمعدات رياضية… وغير ذلك، هذا فضلاً عن شرفة واسعة تطل على المشاهد الجميلة التي تتغير خلال سير السفينة.